الأربعاء، 5 فبراير 2020

س / ما موضوع الإعجاز في القرآن ؟

س / ما موضوع الإعجاز في القرآن ؟
ج / الإعجاز الّذي يختصّ به القرآن دون غيره هو ( الإعجاز البيانيّ ) ، فهذا هو الّذي وقع التحدّي به في مثل قوله تعالى (( وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ )).
وأمّا سائر الأدلّة في القرآن وفي غيره على صدق الرّسول صلّى الله عليه وسلّم كالإخبار بالمغيّبات ومن ذلك الإخبار بما يطابق الكشوف العلمية الحديثة ممّا يسمّيه كثير من النّاس الآن بـ (الإعجاز العلميّ) ونحوه فهو من دلائل النّبوّة وعموم معجزات النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ، لكن ليس شيء منه داخلًا في معنى ( إعجاز الكتاب ) والتّحدّي بخصوص القرآن.
وهذا لأنّ أقلّ قدر وقع التّحدّي به من القرآن هو سورة واحدة منه؛ أيَّ سورةٍ كانت، فدلّ أنّ الإعجاز الّذي يختصّ به القرآن هو = صفة موجودة في كلّ سوره لا تخلو منه سورة، ومعلوم أنّ وجوه الإعجاز الأخرى المحتملة توجد في سورة وتغيب في أخرى، ولا يطّرد في كلّ السّور ويوجد في جميعها إلّا إعجاز البيان والبلاغة ...
وعلى هذا فما صحّ من تلك الوجوه الأخرى ـ في القرآن وفي غيره ـ على صدق الرّسول صلّى الله عليه وسلّم : الصّواب تصنيفه ضمن عموم معجزات الرّسول صلّى الله عليه وسلّم ودلائل نبوّته ـ كما كان السّلف يصنّفون ـ لا ضمن معنى إعجاز القرآن.
وأمّا ما لا يصحّ أصلًا في القوانين التّجريبيّة ونحوها أو يصحّ فيها ولا تصحّ نسبته لمعاني الآيات لمناقضته لمجموع أقوال السّلف فيها فهو = ابتداع وتكلّفٌ، لا يصنّف ضمن معنى إعجاز القرآن ولا ضمن عموم الدّلائل والمعجزات.
فصل :
مقدار ما يصحّ ممّا يُسمّى بـ "الإعجاز العلميّ" بما يمكن إدخاله في التّفاسير المحتملة للنّصوص الشّرعيّة ومقدار ما يؤثر عن الصّحابة والسّلف في مجمل فهمها ـ فلا يعود على المعاني المحكمات بالإبطال ـ هو = غير داخل في معنى "الإعجاز" اصطلاحًا، وإنّما هو من "دلائل النّبوّة" أو من قرائن الصّدق الّتي تكوّن باقترانها مع غيرها دليله ـ إن فرّقنا في الاصطلاح بين "الدّليل" و"القرينة" ـ ، وإلّا فالمقصود بـ "الإعجاز" إنّما هو = ما وقع به التّحدّي، وذا خاصّ بـ "الإعجاز البياني والبلاغيّ" لكون أقلّ مقدار التّحدّي كان بسورة واحدة، والحال هو = وجود سور كثيرة خالية من "الإعجاز العلميّ" المذكور ونحو ذلك، فلم يبق عامّا في كلّ سورة إذن إلّا "الإعجاز البياني والبلاغيّ".
ثمّ إنّ موضوعات "الإعجاز العلميّ" هي = مكتشفات مطابقة فتكون النّصوص الّتي تتضمّن ذلك من قبيل الإنباء بالمغيّبات، ومعلومٌ أنّ قصارى ما تصل إليه دلالة الإنباء بالمغيّبات أن تكون = قرائن تحتاج إلى غيرها من قرائن أخرى معها ليدلّ المجموع على صدق الدّعوى، فإذا هي لم تبلغ بنفسها أن تكون دليلًا فكيف تكون = موضوع التّحدّي أصلا !
وبيان هذا : أنّ الإخبار بالمغيّبات هو ممّا يصدر من الصّادقين كالأنبياء والأولياء وكذا من الدّجاجلة كالسّحرة والكهنة على حدّ سواء، فلا تُصدّق الدّعوى ويُزكّى الحال بمجرّد ذلك الإخبار بها لتعارض الدّعاوى حتّى تُضاف إليها قرائن صدق أخرى كصدق الحديث وأداء الأمانة والحثّ على خصال الخير الّتي يستحسنها العقل سلفًا وكالمطابقة لدعاوى ثابتة قبلها ونحو ذلك، وإلّا فقد يُضاف إلى دعوى المدّعي قرائن كذب مثل نفس صفة كذبه في حديث النّاس وكذا اتّصافه بصفات أخرى مذمومة عقلا كالبخل والجبن وكمعارضة دعواه نفسها لمحكمات ثابتة قبل ذلك بما يدلّ أنّ ما يُخبر به هذا من المغيّبات وكذا ما يظهر على يديه من خوارق العادات هو = حال شيطانيّ، وذا لعدم ثبوت النّظم الكونيّة والقوانين الطّبيعيّة بذاتها، فإنّ الله تعالى هو من قد جعل في مجريات العادة تلك النّظم وهو كان يمكنه أن يجعل ما يُخالفها فأمكن لتلك النّظم بذلك أن تُخرق عقلا لعدم الثّبوت الذّاتي لها عقلا كذلك، وهذا بخلاف حال من تظهر على يديه خوارق تحتفّ بها قرائن صدقه حتّى يبلغ المجموع = الدّليل القاطع على صحّة دعواه كما هو حال الرّسل ومعجزاتهم فإنّ معجزات الرّسل هي = معجزات باعتبار ما معها من قرائن الصّدق بما يدلّ على أنّ اختلال النّظام العاديّ على أيدي هؤلاء كان بفعل نفس من جعل تلك النّظم في العادة وهو الله تعالى فيرجع الأمر في تصديقهم إلى ارتفاع الظنّ باليقين الحاصل بمجموع القرائن إلّا في معجزة القرآن وحدها فإنّ هذه = ثابتة بذاتها فيقينيّة من أجل التّحدّي الواقع وعدم إمكان أحد من الجنّ أو الإنس الإتيان بسورة من مثله، وهذا محلّه كلّ سورة في القرآن أيضًا لقوله تعالى : ( فائتوا بسورة من مثله )، ومن ذلك أقصر سورة فينبغي أن تتضمّن الإعجاز المطلوب وإلّا بطل التّحدّي، ومعلوم أنّ الّذي لا تخلو منه أيّ سورة هو = "الإعجاز البياني والبلاغيّ" .

ج / الإعجاز نوعان :
الأوّل : الإعجاز الّذي بمعنى = التّحدّي ، وهذا موضوعه = القرآن ، فإنّ الله تعالى قد تحدّى الخلائق أن يأتوا بقرآن مثله إلى أن تحدّاهم أن يأتوا بسورة من مثل سور القرآن ، والمقصود بذلك أن يأتوا نظيره في البلاغة والبيان ، ولا أصل لمن أدخل في معنى التّحدّي إعجازًا علميّا أو عدديّا أو نحو ذلك فإنّ مقدار ما يصحّ نسبته لمعاني القرآن من ذلك = داخل في عموم دلائل النّبوّة لا في خصوص ما وقع به التّحدّي ، فإدخال المكتشفات العلميّة ونحوها في موضوع الإعجاز = خطأ شائع وهو أمر أحدثه المعاصرون غافلين عن كون أقلّ مقدار تحدّى الله الخلق أن يأتوا بمثله هو = سورة، وذلك يوجب أن يكون نوع ما تحدّاهم به موجودًا في كلّ سورة، ومعلومٌ أنّ نوع ما أثبتته العلوم التّجريبيّة ونحوها ليس موجودًا في كلّ سورة ، وإنّما الموجود في جميع القرآن = البيان ، فدلّ أنّ الإعجاز القرآنيّ الاصطلاحيّ هو = البيانيّ فقط.
وإنّما النّوع الآخر هو = الإعجاز التّشريعيّ الّذي بمعنى أنّ الخلق عاجزون عن الإتيان بتشريع مثل تشريع الله ، وهذا محلّه من حيث التّفاصيل = جميع ما في الوحي من أحكام لا خصوص ما اشتمل عليه من ذلك القرآن، ومن أدلّة هذا النّوع قوله تعالى : (( ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون )) ، وقوله : (( وتمّت كلمة ربّك صدقا وعدلا )) ، وقوله : (( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه )) ... ونحو ذلك ممّا يدلّ أنّ أحكام الله في هذه الشّريعة هي الغاية في كمال العدل والمنتهى في مطابقة الحكمة ، ولذا فهو لا يحتمل في نفسه خللا ولا انتقاضًا بخلاف العلوم البشرية القائمة على مجرّد العقليات والتجارب والعادات ونحو ذلك مما يقبل النقض والتحول حتّى في أصول من تلك العلوم، وقد صرّح بالتّحدّي في ذلك والإعجاز قوله تعالى عن التّوراة والقرآن : ( قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) ، وذا لأنه لا إعجاز لفظيّ بياني في التوراة فبقي المشترك بينها وبين القرآن، وهو تمام الصدق في الأخبار والعدل في الأحكام وهو = الإعجاز المعنويّ التشريعي .
وعليه فلا يجوز استسهال علم الشّرع والدّخول فيه بمحض أدوات النّاس في علومهم دون إلمام تامّ بأصول النّقل وفروعه، وهذا كما لا يجوز الدّخول فيها لمن له الإلمام بالنّقليّات دون امتلاك لتلك الأدوات ، وإلّا لم ينتظم البناء ولم يصحّ القول ولا نسبته للشّرع ، ومن ذلك ما لو حكّمت في فهمه مجرّد الآراء أو اكتًفي فيه بملاحظة التّجارب والعادات أو رُدّ الأمر إلى مجرّد الأذواق أو الرّؤى والمنامات ، فإنّ تلك هي سُبل تحصيل العلوم البشريّة القابلة للخلل والبطلان والانتقاض بخلاف علم الشّرع الّذي هو في نفسه = معجز معصوم .
الشيخ قيس الخياري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق